عزيز وعزيز
صورة مختصرة عن عبدالعزيز القاضي
بابا عزيز - 2020
منذ زمنٍ بعيد وهو يجلس في تلك الزاوية من صالة بيته الكبير، صالة مستطيلة، تغيّر السجاد وطقم الأرائك واللوحات وجهاز التكييف والتلفاز.. مرارًا، وهو في الركن ثابت على حاله وعلى جلسته المميزة، لم يتغير. لا أعرف عنه الكثير، ولا أعتقد أنه يعرفني البتة، يأتي الناس حوله ويذهبون وهو لا يحس بهم، لا يسمع الحديث إلا عندما يسأل، لا يدري من نحن إلا بعد تعريف، مصاب بالزهايمر، تتكرر أسئلته مرارًا، يغضب بسرعة، يبرد جسمه بسرعة، روتينه دقيق لا يتغير، فنجان من الشاي الممزوج بماء كي تخفّ حرارته، ماء الشرب لا يتعدى نصف الكأس كي لا يقع عليه، الزبادي والشوفان والهريس، والبرتقال أحيانًا، هي قائمة طعامه، العشاء في الساعة السادسة، إذاعة الكويت تمام الثامنة، صلاة العشاء مع أحد أبنائه أخوالي -وحينها نسترق السمع لعذوبة أصواتهم، الخال حسان خاصة عذب الصوت والمنطق، طيّب الخلق- يتغير هذا الروتين بشكل طفيف كل فترة، غالبًا ينقص لايزيد.
أتمنى لو كنت هناك حينما كان يميزنا، ويجد البهجة بالحديث معنا، لا أدري إن كانت البهجة لنا أم لمجرد الحديث المثير. عاصر الدولة السعودية منذ بدايتها، الحرب العالمية، حرب الخليج وغيرها. لا أصدق أنه كان شابًا حينما كانت فلسطين حرّة، كيف عاش ذاك الوقت الثمين؟ أظن أن أسفاره كنوز، وأفكاره من ذهب. التجارب التي خاضها لا تقدّر بثمن، لكن الزهايمر أناني، لم يُرد لنا النهل منه، ولم ينهل بدوره، بل بكل بساطة.. قضى على أفكاره.
يبدو خيالي طفوليًا حينما أقول هذا، لكن كم أتمنى فعلًا أن نتفاجأ يومًا بدفتر مذكّرات يقبع تحت السرير مثلًا، لم تلمسه يد سواه، لم يخط فيه غيره كل غامض مثير، ولا يوجد أكثر غموضا من ماضي بابا عزيز، ولا أشد وضوحا من حاضره.
كيف تشعر أمي؟ وهي ترى الرجل الذي كان ذو هيبة، للبيت هالة بوجوده، تترتب الحياة حسب أوامره، يحتاج عناية واهتمام كطفل صغير عصبي المزاج، لازالت الحياة تترتب وفقًا له لكن في الجهة المعاكسة، جداول للاعتناء به.
كل هذا، لكني اتسائل أحيانًا ما الذي يشغل باله كل هذا الوقت، هل يعقل أن يكون رأس إنسان فارغ من الأفكار؟ بماذا يفكر؟ وهل يتألم لحاله؟ هل يقاوم الحياة أم أنها تعجبه وهي كذلك..
وهل حقًا لا يعرفني؟ لا أذكر أي لحظة بيني وبينه أبدًا، سوى من حكايات أمي عندما كنت في نعومة أظافري.. لكني ابنة ابنته والحفيدة شيء مهم لكل جد في الوجود مشاعرنا تجاه بعضنا - إن وجدت- خافتة كضوء الشمس من وراء الستارة المعتمة، وهي أبدًا لا تشبه المشاعر تجاه جدّي من أبي، وإن كانت هي الأخرى خفيفة، إلا أن قلبي ينبض وأحس بجريان المشاعر عندما أتذكره بخلاف بابا عزيز. رغم ذلك، فهيبته لم تُمس، لازال "جدي عبدالعزيز" وللاسم مهابة.
2022
كتبت السطور أعلاه قبل عامين ولم أكملها من ذلك الوقت، حتى تفاجأت اليوم بخبر وفاة جدنا الغالي، عميد أسرتنا وعمود البيت، بعد شهر قضاه في ضيق تنفس، في
غرفة المشفى البيضاء، تحت عناية مركزة.
جاء جمع غفير ودعوا له بالمغفرة والرحمة، تهاوى الأقارب من كل مكان للعزاء.
تقول خالتي التي كانت ترعاه “فتحت شبابيك غرفته كل يوم لتتهوى حتى موعد قدومه، وفي الأمس فقط رتبتها وأحضرت التسريحة التي يحبها بعد أن قالوا أن صحته
تحسنت" لكنها لم تتحسن طويلًا..
كان شاعرًا كبيرًا، كتب العديد من القصائد، وحفظ العديد، حتى كان يستقبل بعضنا بها، فـ لميس من نصيبها "بانت لميس"، وعلي له "ياعلي صح بال..." أما أنا فتقول أمي أني من أنشد له لا العكس بأسلوب طفولي وحركات مؤثرة. أذكر أنه كان يجلس على الأرض ويشرب الشاي كل عصر، بجانب الشباك الذي يحوي نباتات يجعلها تحتسي ما يتبقى من فنجانه. كان مكانه أثيرًا حتى أن الصغار كانوا يشعرون بالأهمية حين يتسنى لهم الجلوس فيه، ويقلدون حركاته. بعد مدة كبر في العمر حتى صار لا يحتمل النزول، فوضعنا في المكان ذاته كنبة مريحة ذات ذراعين ومسند للقدم.
لم يترك أي صلاة، أذكر بشكل ضبابي خروجه للمسجد متكئًا على يد المحظوظ من أولاده. أما ذكرياتي الواضحة عن صلاته فهي في الصالة، جماعة بإمامة أحد أخوالي واه إن كان شجي الصوت الخال حسان، نسکت وربما ندخل الصالة لنحظى بسماع أفضل، وننصت خاشعين، وبعد الصلاة كانت إذاعة الكويت الساعة الثامنة قبل موعد النوم. يفتحها بالراديو الذي يسنده على كتفه وبجانب أذنه، نسمعها جميعًا طبعًا، فالصوت كاف.
يسأل تعشيت؟ نرد عليه للمرة الخامسة أن نعم، ثم يسأل متى أنام؟ هذا السؤال صعب، لأنه مرتبط بقدوم خالي ليوصله لغرفته ويعده للنوم، ولا ندري متى بالضبط يجيء.
بعد وفاته بسنة - رحمة الله عليه تغيرت الكثير من الأمور، انتقلت خالتي لبيت مستقل، تزوجت ٣ من حفيداته/أحفاده والرابع في الطريق، ضُمّ لقائمة الأحفاد فردين جديدين، وخالي شجي الصوت.. أصيب ابنه في حادث وهو في غيبوبة منذ أسابيع، أخاف عليه وعلى خالي رقيق القلب.
حرر ابنه/خالي تميم كتابًا من مخطوطاته "تفسير القرآن الكريم” ووُزع على الأسرة، وأصبح من إكرام الضيف في بيوتنا، بجانب القهوة والتمر، تقديم نسخة من كتاب جدي.
هذه الكتب كانت محفوظة في "التجوري" وأوصى ألا تطبع إلا بعد، موته المذكرات الثمينة التي تمنيت أن توجد.. وُجد ما هو أغنى منها وأثمن.
"سقاك الغيث إنك كنت غيثًا"
2023
أمس فقط واصلت التحرير بعد انقطاع سنة، واليوم اتفاجأ بوفاة حفيده، وسميّه عبدالعزيز حسان القاضي
بكر أبويه، والأحبّ لأخوانه، عطر الذكر وطيب السيرة، كنت لا أعرف عنه إلا أنه من أترابي، كنا نلعب سوية يومًا، وأنه ابن خالي الأحب وخالتي الأطيب. أُصيب في طريقه لاختبار جامعي، لا يفصل بينه وبين التخرج إلا ترم واحد، لكن لله حكمته واختار الله له أن تكون فرحته أعظم وأكبر من أي فرحة دنيوية.
بكيت كثيرًا لهول الخبر ومفاجئته ولازلت أبكي، لكن ما جعلني أنهار حقًا هو منظر والده. بعد ساعة واحدة من الخبر التقينا به عند باب خالتي، مستهلّ الوجه مستبشر، مرتاح وصابر، يقول أنتم تخافون علينا لكن حنا صابرين محتسبين. انعقد لساني من البكاء ولم أستطع تعزيته، قبلت رأسه واستترت بدموعي.
وفي بيت جدته، تسلّم عليّ خالته الصابرة البشوشة “أوه زهد، عزوز كان كبرك” كان أكبر منا جميعًا يا حصة، العمر بالأعمال لا الأيام.
أما عن معرفتي الضئيلة عنه، فلم تعد كذلك، الجميع يتحدث عنه بخير وفي كل مكان، قريب وبعيد، كبير وصغير رجل أو امرأة. ماذا فعلت يا عبدالعزيز ليكون لك هذا الأثر.
تتوالى البشائر عنه من أحلام سارّة وذكر طيب ووجه منير، تجعلني أشفق على نفسي وأراجعها، لمثل هذا فليعمل العاملون.
منها ما قاله أحد أصدقائه، رآه في الحلم فقال له: بشّر شلون اختبارك، قال “الحمدلله نجحت”.
اه واغبتطاه، الله يرحمك ويغفر لك ويفرّحك بالجنة أضعاف أفراح الدنيا الزائلة.
رثاه أباه، والكثير من أهله وأصحابه -ولم تمض ثلاثة أيام بعد- بقصائد يتفطر لها الفؤاد..
لله در الذُّرا قد وسّدت جسدًا
قد أُهلكت روحه دهرًا ليُحييها
وللمآذن صدّاح بــ "حيعلةٍ "
فما يزال الصدى رجعًا يغنّيها
لا صبوةٌ عرفت .. لا زلةٌ حُفظت
كالنحل للزهر يأتيها فيجنيها
لو أنصفوا هيؤوا لحدًا على جبل
فنفسه تألف العليا وما فيها
صديقه
بعد ساعات من الأسطر أعلاه
توفيت أخت جدي، والعزيزة على قلب جدتي، وعلى قلوبنا جميعًا.. نورة الحبيب.
كانت في المشفى آخر الأيام لكن لم أتوقع بتاتًا هذا الخبر. كانت شعلة من النشاط والحيوية، قوية الشخصية تستمد بناتها منها الثبات، على شدتها وحزمها إلا أن فيها من اللطف ما يخلب الألباب، تتضايق إن تخلفنا عن اجتماع أو مناسبة ونحن الذين لم نكن شديدي القرب، أحفاد أخيها. تحب جدي، أخوها، ودائمًا ما تذكره، تغلينا ونغليها لغلاه.
جائت هذه الأحداث في إجازة بين الفصلين، توفي عبدالعزيز الشاب تتبعه العمة نورة، تذكرنا أن الموت لا يعرف وقتًا ولا عمرًا.
يارب ارحم موتانا وموتى المسلمين، واجمعنا بهم في جناتك جنات النعيم.