تخفت الأنوار، يشق الطريق، تصبح الألوان رمادية، الملذّات عادية، والأطعمة متشابهة، تهون الدنيا إذ تراها على حقيقتها، ويطول الوقت كأن لا انتهاء له، تتقافز في رأسك المحموم أسئلة وجودية، وربما تغشوك غيمة تفكير سوداوية..


فضلًا عن الآلام المبرحة، هذا هو المرض، الذي طالما رأيته بصورة قدسية، كأن المريض من حوله هالة، وأراه أحيانًا بحالٍ أرقى من الأصحاء، فهو أنقى سريرة، وأصفى بصيرة، كأنه خبر الحياة أكثر منا وهو يراها الآن من عدسةٍ بعيدة. وحالما يمرض أحدنا ينسدل عليه جلباب الهيبة ويصبح بيننا ستار من الجدية، وتتسائل: هل أنت حقًا أنت؟


يقول السيّاب إثر مرض ألمّ به: “لك الحمد مهما استطال البلاء، لك الحمد مهما استبد الألم، لك الحمد إن الرزايا عطاء، وأن المصيبات بعض الكرم


للمرض صورته الاعتيادية الموصوفة آنفًا، التي تتبادر للذهن فور ذكره، غير أن له جانب خفيٌّ لطيف، شديد النحافة إن قسته بالعرض، يصاحب بعض هذه الحالات، يكسبها شيئًا من أنسٍ وطمأنينة -بل وحلاوة!- ويجعلها تجربة مثيرة، أو لنقل.. أقل إيلامًا. 

بحالة الضعف والهوان، وحالة الإعفاء من جلّ المتطلبات الاجتماعية والشخصية وحتى الدينية -وأحب هذه الأخيرة لأنها تجعلني اتأمل اسم الله اللطيف الرحيم، حكمة الإسلام وحسنه، وكيف خصص أحكامًا مخففة لحال المرض-  

هنا يصبح الوقت، كل الوقت، ملكك! ولا أعني هنا أن تستفيدين منه داعيةً للمثالية. الشعور المجرد بملكية الوقت وحرية اختيار ما تفعلين فيه -إن سمح لك المرض- رائع، أن أعذر نفسي حتى لو افترشت السرير طوال اليوم، أن اتمتع بهذا الوقت الحرّ حتى وإن كان استمتاعي فقط باستشعاره، دون أن أفعل أي شيء. وأنتِ؟ ربما اخترتِ أن تتأملين ناسجة من خيالك حكاية غريبة الأحداث، ربما كان الحال يستلزم -أقصد يصلح إذ لا شيء انذاك يلزم- لسماع قصة أو أنشودة، ربما كان كتابة أو قراءة أو مشاهدة يوتيوب أو محادثة صديق، أو ربما النوم وفقط.. بغض النظر عما أردت فعله، المهم أن الوقت لك، مساحة فارغة، فسحة من الركض في هذا العالم. 


لاحظت أن فعل ما أحب والانخراط فيه يجعلني أنسى، ومتى نسيت سارع المرض بالذهب، وعاد لجسدي شيء من الحيوية. ربما كان هذا السبب الذي جعل العرب يطلقون على المريض صحيحًا، والصحراء مفازًا، تؤثر هذه الاستعارات حتى يقتنع بها السامع من غير قصد. 


فضلًا عن استشعار أنه حكمة ورحمة، تطهير من الذنوب وزيادة للأجور. لذا كان الرسول يقول عندما يزور المريض “طهور إن شاء الله”.


وفضلًا عن السنن والأدعية التي تقال عند المرض، أحب تذكّر أنني لست وحدي حينما أضع يدي على موضع الألم واقرأ الفاتحة سبعًا “وننزل من القرآن ماهو شفاء”، وحين توصيني أمي بالعسل، وحين آخذ الدواء وأنا موقنة أنه سبب وأن الشفاء بيد الله الشافي فقط، حين أصبر وأتذكر “والله يحب الصابرين” و “إن الله إذا أحب عبدًا ابتلاه” راجية أن يكون هذا من رحمته، وسببًا لقربه سبحانه. 


لا أراكم الله بأسًا، فيكم أو في أحبابكم

دمتم أصحاء♥. 

أغرب مشفى زرته حتى الآن :/