“يا له من نهار”
يوم جرى كحلم، كغالب الأيام التي ينعقد في صباحها اختبار، يسكن القلق أوله، ثم يُخلي الطريق لقلة النوم/الرغبة في عيش اللحظة في الآن ذاته. لكن يبدو أن غيوم اليوم زادت قليلًا، وهذا تعبير مجازي يدلّ على هيئة الحلم لليوم، فإن زادت الأولى.. زادت الثانية، وهذا ما جرى.
يومٌ غائم
استيقظت بعد ساعتين من نومي، وقتما لا يجب عليّ الاستيقاظ، لكن للتوتر استحواذه. انتظرت حتى وقت الاختبار، الذي أتاني كواحد من “الديمنتورز” وهي لمن لا يعرفها كائنات تمتص ما فيك من حياة وترديك للذكريات السيئة. كان ديمنتورًا لطيفًا إذ لم يوصلني لتلك الهاوية، لكن ماء وجهي اضمحلّ، وأَخْذُ نفَسٍ عميق كل دقيقتين أصبح ضرورة، وكأني اختبر على جبل، لا في آخر مقعد من القاعة المربعة الصغيرة، الأرضية جدًا. بعد كل شيء والحمدلله كانت إجاباتي جيدة، لا أستطيع قول رائعة بوضوح، إذ لا تمكّنك هذه المادة من الجزم بشيء، وإذ لا يُشعر معها بالروعة، تكون في شكّ حتى تخرج النتيجة، فتشكّ في استحقاقك لما حصلت، مرة أخرى.
ظننت أن هذا أقصى ما يحمله اليوم، الذي كنّا لا نطيق له صبرًا، منذ أن بدأت الاختبارات وأنا انتظره بحماس واتسائل كيف سأعيشه. تلاشى معظم هذا بعد رهبة الاختبار، لكن لازالت الرغبة في لقاء أخير مع فتيات خاطفات للألباب، عرفتهم قصيرًا، وقليلًا، لكنهم كانو خير رفيق في السير، وكم أقدّر رفقاء الطريق، خاصة إن كان جافًا وعرًا، كصحراء نجد، كطريقنا هذا.
كان لقاءً واحدًا، تقريبًا، لقطةٌ ثبتت ببالي لها عُنوان “رجفة الاختبار”، حيث أن مسًا كهربائيًا مجهول المصدر يجري في عروقي مذ خرجت ولم يقف، حتى أني في منتصف حديثها أمسكت يدها أحاول الثبات، واستعادة شيء من البهجة المغلوب عليها، وأظنني اخترت الشخص الصحيح، فهي دائمًا سارّة! (وكما تقول جدتي رحمها الله لمن تحمل هذا الاسم: الجرّة العطاّرة)
-
فعلًا، عندما ترى مصائب غيرك تهون عليك مصيبتك. قبل أن أغادر الجامعة، رحت أبحث عن صديقتي. دائما ما تمكث في الاختبار طويلًا فلم استغرب اختفائها، لكن الحقيقة صعقتني! أقبلت باكية، مرتجفة، على غير عادتها المتزنة الهادئة، تصرخ “زهد ما لقيت شنطتي!” كان الموضوع غامضًا للجميع، حقيبتها التي تحوي مقتنياتها الإلكترونية الثمينة.. آيبادها، روح الدراسة، وهاتفها، الهويّة الرقمية لشخص هذا العصر، اختفوا بظروف خفيّة. لم تكف عن البكاء ولم نكف عن البحث، لم نجد أثرًا ولا يدًا، إلا من فتاة عابرة، وجدَتها تبكي وهي على مشارف الخروج، فأصرّت أن تساعد في البحث -أصدقكم القول إن قلبي رفرف حين رأيت هذا اللطف في السكراب الرمادي الذي يجهر بـ: صيدلة! -.
حزنت لأجلها كثيرًا، كان من المفترض أن يكون أفضل أيام العام، حيث أنهينا البرنامج التحضيري بأكمله، لكنه انقلب لها نكدًا، وظنّنا بالله جميل، عوّدنا الجميل ولا يخيب ربنا من دعاه :( لا زلنا في بحث ورجاء، يارب ردّ لنا ضالتنا.
-تحديث: وجدناها! الحمدلله🕺-
Zoom out :
لم تكن التحضيري بذلك البؤس، بالنسبة لي على الأقل، و قد جربت الدراسة قبلها. كانت موتّرة لاريب، لكنها بالغة المتعة "بعبارة أخرى: شوو مهضومة".
فرحتي بالقبول وبأني أخيرًا في المكان الذي أريد كانت تطغى على كل شيء "قاعدة أعيش دعائي السنة الماضية!"
المواد كانت ممتعة لعقلي. أعشق التعلم. تنوير الأماكن التي لم تُزر قبل في المخ، عجيبة! تنقية الأفكار وصقل الشخصية والخلق، وجوانب ليس لها علاقة بما تدرسه لكنها تتأثر بسبب هذا الأداء الإنساني الذي يحترم العقل.
صحيح إن التأقلم مع مكان جديد وبيئة جديدة ما كان سهلًا، ولم أتوقع منه أن يكون كذلك، لكني أشغل نفسي بالدراسة كلما زارني وسواس أو راودني قلق، وهذه نصيحة كل مُستشار، على الأقل كما أعتقد.
الدراسة عن بعد رائعة، اكتشفت كيف أرتب وقتي بشكل أفضل وأكثر جدوى. لذا، كان خبر رجوعنا للدوام الحضوري مريعًا بالنسبة لي، لكن أواه يا الأثر! ضاق الوقت بلا شك، لكن رؤية من تشاركهم الأحداث يؤآزر. رغبة تلك الفتاة الملحّة بالتعلم تُصيبك بالعدوى، رؤية تعابير الأستاذة تساعدك، تذكّر الكلمات المشددة على جملة ما ولو لم تلق لها بالًا لكنها تقفز بذهنك عندما تحتاجها، الممرات المكتظة بالطلاب، غرفة الدراسة التي تصبغها أرواب الدكاترة والصيدليين بالبياض، “السعي” وحده يُشعرك بأهمية وجلال ما تصبو إليه: العلم.
وبصفتي فتاة كيميائية الخلفية، كان لابد لي من أن أأودي جيدًا في مادة الكيمياء الوحيدة، لكن لم أدرِ أن هذا سيبدأ مبكرًا جدًا: في اختبارت الترم المشترك، الذي يخلو تمامًا من أي نسمة كيميائية، كانت تراقب على قاعتنا أستاذة لطيفة. جِئت يومًا للاختبار بجديلتين، وهي تسريحة ال"مالي خلق"، لكنها ما إن لاحظتني حتى أسرّت لي "you look beautiful today!” فوجئت وضحكت فَرِحة. بعدها بأيام كنت أرتدي خاتمًا كُتب عليه بالعربي "عابر سبيل" لاحظته المعلمة ذاتها، وعبرت كم أنه جميل، وطلبت مني أن أشرح لها معناه بالإنجليزية حيث أنها لا تتكلم العربي، وقبل أن أغادر قالت لي "ممكن أصوره؟" خلعته وقلت لها صوريه وهو بيدك أحلى. -استرجعته طبعًا، ما وصل فيني الكرم إني أهبه، الحلقة الجاية إن شاء الله😁- المفاجأة أن المعلمة ذاتها أصبحت معلمة الكيمياء الحيوية، والصراحة.. ورطة. تلاحظني بين الجمع، وأخشى ما يُخشى أن يكون هذا الجمع في القاعة وهي على أهبة طرح سؤال عمّا شرحته. سألتني مرة وجاوبت بأعجوبة، لكن غالبًا ما كنت أخرج حين تهمّ بطرح سؤال، ناجية بنفسي، إن كنت قد حضرت المحاضرة أصلًا.
آسفة، أحترمكم كدكاترة جامعيين لكن التحضيري يحتم علينا ذلك: الاعتماد على الخصوصيين، في الكيمياء والأحياء خاصة، للنجاة من أسئلة الاختبار المريخيّة. أفادوني كثيرًا ولم أكن سأجتاز لولا الله ثم مساعدتهم، لكن لا أحب الاعتماد هذا أبدًا، أحب أن أنبّش عن المعلومة وآخذها من حيث أريد، بالشكل الذي أريد، لا أن تصب بذهني صبًا ويطلب مني حفظها لأصبها بدوري في الاختبار. يارب لا تحوجنا لهم ثانية. ولأجل أني أريد أن يكون لي دور في عملية التعلم هذه، لا أن أكون متلقيًا فحسب، بدأت بإعداد ملخّصات، كان الأمور بدايةً لترتيب المعلومات، ولي فحسب، لكنه صار متعة، وصرت أشاركه مع طلاب الدفعة. أفضل لحظة حين تأتي إليّ إحداهن "جاني بالاختبار سؤال وعلى طوووول تذكرت الربط حقك" أنا بالجنة يا عبدو! D:
جوري! الشخص الغامض الغريب، الساحر. من المدهش حين أفكر في الأمر، كيف لفعل البسيط أن يحدث أثرًا كبيرًا لهذا الحد!
نظرًا لأني انتقلت من جامعة لأخرى، من مكان مكتظ بالمعارف إلى مكان خالٍ إلا من اثتنين أو ثلاث -وهم بالمناسبة ذو قدر لا يستهان به- كان هناك شعورًا طفيفًا بالغربة، وبعدم التمكن من الأمور كما يجب. كنت أريد فقط عينا خبرة، نظارة بعدسات تريني “التحضيري” حقيقة، وكانت هذه جوري. ظروف التعرف عليها عجيبة، كانت ليلة اختبار الميدتيرم وكنت عبثًا أحاول مراجعة كتابة القطعة. وعن يأس لا عن انتظار رد منطقي.. ألقيت سؤالي في مجموعة تلقرام الضخمة، لم يكن يتوجب على أحد الرد، خصوصًا على موضوع فضفاض كذلك، لكن كان هناك جوري. كانت قد وقعت في شرَك كورونا، التي تهد الأعصاب وحاملها، لكن لم يمنعها ذلك من مساعدتي، بصدق وإخلاص وجدية لم أكن اتوقعها من شخص عابر.. ومُتعب. ومن ذلك الحين وأنا أتحدث معها كلما رابني أمر دراسي، مشورة، سؤال، أو نتيجة مفرحة لما قد رابني. وجود جوري، الشخص الذي خاض قبلي المعارك ذاتها، الشخص الذي يمد يد العون على الدوام، واساني جدًا وأعطاني شعور السند في خضم البحر الهائج المسمّى تحضيري. لا أعتقد أنها كانت تتكلف المساعدة، بل كانت تأتي سجيّة، وهذا ما أثار ذهولي. تواصلنا متقطع وبعيد لكنه صادق، وأحب الشخص الذي يقبع وراءه، أنا فقط ممتنة، وسعيدة بوجودها.
نعم، سنة كاملة، تبدو الآن كمجرد نهار، ويا له من نهار!
هنا كنت خائفة من عدم القبول، وها أنا الآن قد اجتزت! الحمدلله♥
مازال اليوم ضبابيًّا، عائمًا على الغيوم، ومازال النوم يتلقفني، آملًا أن ينال منّي سويعات، لكن القصور الذاتي يقاوم، والعجلة تدور ولا تقف، حتى أصاب بالدوار.